التسبيحات

إنه الثالث من تشرين الأول، منذ يومين فقدنا إبراهيم. لمعرفة أي خبر عنه، توجهنا إلى لجنة أسرى الحرب، ولكن لا فائدة. بقيت مستيقظًا حتّى منتصف الليل. كنت منزعجًا وحزينًا جدًّا؛ إذ لا خبر لديّ عن صديقي الأقرب. بعد صلاة الصبح، خرجت إلى باحة المقر، وجلست على التراب. يلفّ سكون غريب موحش معسكر «أبو ذر». صرت أستعيد الذكريات التي عشتها مع إبراهيم. كان المكان لا يزال مظلمًا. مع صوت فتح باب المعسكر، رفعت رأسي من دون قصدٍ منّي، وتسمّرت عيناي. رأيت شيئًا لم أستطع تصديقه.. إبراهيم يقترب مني بوجهه الدائم النورانية برفقة شابين آخرين. اعتقدت أنّني أتخيّل، وقفزت من مكاني. ابتسم إبراهيم واحتضنني بشوق.. بكيت لشدة فرحي. بعد ساعة تقريبًا، بدأ إبراهيم يخبرنا ما حصل في الأيام الثلاثة السابقة: تقدّمنا في ملالة، ولم نكن نعرف إلى أين تقدم العراقيون. حوصرنا بالقرب من إحدى التلال. كان حوالي المئة عراقي يطلقون النار علينا. استقررنا نحن الخمسة في حفرة وبادلناهم إطلاق النار. قاومنا حتّى الغروب، ولمّا حلّ الليل، تراجعت القوات العراقية. استشهد اثنان كانا يعرفان الطريق. خرجنا من الخندق، ولم يكن هناك أحد. انسحبنا إلى خلف التلة، اختبأنا بين الشجرات، وأخفينا أجساد الشهداء. كنا متعبين وجائعين. حين غابت الشمس استطعنا تحديد القبلة، فصلّينا نحن الثلاثة المغرب والعشاء. بعد الصلاة، قلت لرفاقي: «يا شباب، لا تنسوا تسبيح السيدة الزهراء». حين أنهينا تسبيح السيدة الزهراء، تذكرت أن الرسول قد علّم ابنته هذا التسبيح حين كانت تعاني من المتاعب اليوميّة. وفي الحقيقة، يعتبر هذا التسبيح سبيل الخروج من المشكلات والأزمات. بعد ذلك سجدت وقلت: «إلهي، بحق السيدة الزهراء خلصنا من هذه المشكلة وهذا الموقف الصعب، وبالطريقة التي تريدها، اهدنا ودلّنا على الطريق الصحيح». ثم تحركّت أنا والشباب. مشينا بهدوء وسكينة إلى الخندق السابق الذي كنا فيه، واستطلعنا المكان حوله. لاحظنا أنّ الجثث العراقية ما زالت مرميّة على سفح التلة. بما أن ذخائرنا قد نفدت، استولينا على أسلحتهم وأمشاطهم الملأى، مضافًا إلى كل القنابل اليدوية وحربات الأسلحة. كما وجدنا علبًا من المواد الغذائية، ثم هممنا بالمشي، لكنّنا لم نكن نعلم في أي اتجاه نسير. لذلك قلت في نفسي: كلما وصلنا إلى مفترق طرق، نستخير بالسبحة. بعد أن تقدمنا قليلًا، توقفنا أمام مفترق طرق. في الطرف الأول خنادق العراقيين وفي الطرف الثاني سهل واسع مكشوف. استخرت، فكان من الأفضل أن نسير لجهة خنادق العراقيين، فتحركنا. أردينا اثنين من الحرّاس قتلى، ثم عبرنا إلى الباحة وسط الخنادق. عندما كنا نريد الخروج، اصطدمنا بأسلاك سارية المخابرات فقصصناها وأسرعنا مبتعدين. ثم وصلنا إلى منطقة مليئة بالآليات العراقية، فنصبنا فخًّا من القنابل اليدوية وابتعدنا من هناك أيضًا. كان الصباح يقترب عندما وصلنا إلى مكان آمن. بعد الصلاة، استرحنا قليلًا. بقينا نستريح طيلة النهار تقريبًا، ثم أكملنا طريقنا عند حلول الليل. هذه المرة أيضًا، استخرنا بالسبحة ووجدنا الطريق. مرة ثانية، وصلنا إلى منطقة عسكرية. وكانت الاستخارة أن نعبر وسط المنطقة العراقية. هذه المرة، كانت المواقع العراقية أكثر تعقيدًا ومليئة بالخنادق، تحيطها الأسلاك الشائكة الدائرية من الجهات كافة. قلت للشباب حين نربط الحربة بالقواطع المعدنية تتحول إلى مقص للأسلاك، وكل سلك يواجهنا نقطعه. قصصنا كل الأسلاك التي اعترضت طريقنا، من الأسلاك الشائكة إلى أسلاك الكهرباء وأسلاك الاتصالات أيضًا، وتحركنا بسرعة. في طريقنا قضينا على حارس عراقي، ثم وصلنا إلى تلة، على قمتها رادار يعمل[1]. نظرت حولي، والتفت إلى مجموعة من الأسلاك تخرج من خندق وتتصل بأعلى التلة. بصعوبة بالغة استطعت أن أقطعها. توقف الرادار عن الدوران. التفت العراقيون إلى حضورنا بسبب قطع الكهرباء والرادار. فبدأوا بإطلاق النار. ونحن أيضًا، أطلقنا بعض الألعاب النارية بالقنابل والقذائف وأسرعنا في الابتعاد عن هناك! هذه المرة أيضًا، مشينا ومشينا ولم نصل إلى قواتنا العسكرية. عندما أطل الصباح، استرحنا في مكان مناسب. انتهى زادنا من الطعام وعانينا من الجوع طيلة النهار. في المساء، بعد الصلاة، أكملنا طريقنا مرة ثانية. هذه المرة أيضًا، توكلنا على الله واستخرنا، ومشينا في طريق مستقيم، وبالصدفة وصلنا إلى خنادق الأعداء! وفي الواقع عبرناها، ووصلنا إلى منطقتنا. بالطبع، في موقع العدو، قمنا ببعض الأعمال المختلفة، ولكن لم يكن الصباح قد طلع حين أوصلنا الله إلى مقر قواتنا. هناك التفتنا إلى أننا على بعد خمسين كيلومترًا جنوب «سربل ذهاب»، وكنا طيلة الوقت نتحرك بموازاة الحدود. صمت إبراهيم قليلًا ثم قال: «حين استخرت للذهاب من السهل أم من مواقع العراقيين، تمنيت كثيرًا أن تكون الاستخارة جيدة للمسير من السهل، لكنني عرفت الآن الخير الذي كان في عبورنا من مواقع العراقيين. يقول الله في القرآن الكريم: {عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم}.انتهى كلام إبراهيم، لكنني ما زلت مصدومًا ومبهوتًا به، وما زلت أغبطه على حاله. ثم قلت له: «أخي أبرام، اذهب واسترح قليلًا، يصعب عليك أن تفتح عينيك».

[1]- أي أنّه في حالة دوران.

Comments (0)

Rated 0 out of 5 based on 0 voters
There are no comments posted here yet

Leave your comments

  1. Posting comment as a guest. Sign up or login to your account.
Rate this post:
Attachments (0 / 3)
Share Your Location