أبو جعفر
إنها الأيام الأخيرة من العام 1980م. وصلتنا أخبار العمليات الجديدة التي قام بها الشباب في مرتفعات «بازي دراز». كان من المفترض أيضًا أن يقوم شباب مجموعة «أندرزكو» بعمليات اختراق إلى عمق مواقع الأعداء.اختاروا لهذا العمل، مضافًا إلى إبراهيم، «وهاب قنبري»[1] و«رضا كوديني» وأنا. كما رافقنا «شاهرخ نوراني» و«حشمت كوهبيكر» من شباب المنطقة الأكراد. أخذنا معنا الوسائل اللازمة من طعام وأسلحة، وعددًا من الألغام المضادة للآليات. مع حلول الظلام تحرّكنا باتجاه المرتفعات. وصلنا بعدها إلى منطقة «جيلان غرب». مع طلوع الفجر كنا قد استقررنا في مكان مناسب بعيد عن أعين الأعداء. خلال النهار، كنا نستريح ونستطلع في الوقت نفسه مواقع العدو في السهل أمامنا. وضعنا خريطة لأماكن التسلل المحتملة. كان للتلة التي أمامنا طريقان، أحدهما مرصوف بالإسفلت والآخر ترابي للتحركات العسكرية. كانت المسافة بين الطريقين حوالي خمسة كيلومترات. في أعلى التلة، تتمركز سريّة عراقية لتغطية هذين الطريقين والمنطقة المحيطة بهما.عند المغرب، صلّينا ثم انطلقنا. توجهت مع «رضا كوديني» إلى الطريق الإسفلتي بينما ذهب الآخرون باتجاه الطريق الترابي. اختبأنا على جانب الطريق. حين خلا الطريق من السيارات والآليات، أسرعنا إلى الوسط وزرعنا عددًا من الألغام في بعض الحفر الموجودة عليها، أخفيناها بالقليل من التراب ثم أسرعنا باتجاه الطريق الترابي. من الواضح أن العراقيين ما زالوا عالقين في معركة «بازي دراز». يظهر هذا الأمر جليًّا من الآليات والدعم الذي كانوا يرسلونه إلى تلك المنطقة. لم نكن قد وصلنا بعد إلى الطريق الترابي، حين سمعنا دويّ انفجار رهيب خلفنا. من دون وعي منا، عدنا إلى الوراء كي نرى ما الذي حصل. داست إحدى الدبابات على لغم وها هي تحترق. ثم بدأت القنابل والذخائر الموجودة داخلها بالانفجار واحدة بعد الأخرى. أُضيء السهل بأكمله، جرّاء احتراق الدبابة، كما أصيب العراقيون بصدمة رعبٍ كبيرة فأخذوا بإطلاق النار في جميع الاتجاهات من دون هدف محدد. حين وصلنا إلى إبراهيم وبقية الشباب، كانوا قد أنهوا عملهم أيضًا. فتوجهنا معًا نحو المرتفعات مرة ثانية. قال إبراهيم: «لدينا كثير من الوقت حتّى يطلع الصباح، ولدينا أسلحة وذخائر، لننصب بعض الكمائن للأعداء، فنرعبهم بشدّة». لم ينهِ إبراهيم كلامه، حتّى سمعنا دويّ انفجار كبير من ناحية الطريق الترابي. انفجرت آلية عراقية بعد مرورها على أحد الألغام. فرحنا كثيرًا لأن عمليتنا قد نجحت. ازداد إطلاق النار من قِبَل العراقيين. لقد عرفوا أننا تسللنا إلى مواقعهم، فبدأوا برمي القنابل المضيئة ومدافع الهاون. عندها أسرعنا الخطى إلى الجبل، وأثناء مسيرنا تفاجأنا بسيارة جيب عراقية تقترب منا وها هي أمامنا لدرجة أنه لا مجال للتفكير واتخاذ القرار. بسرعة، تموضع الشباب في الخنادق وبدأوا يطلقون النار على السيارة. بعد لحظات، تقدّمنا إلى الجيب حيث قُتل أحد الضباط العراقيين وسائقه. بينما جرح عامل الإشارة[2] الذي كان برفقتهما، ووقع على الأرض. كانت إصابته في قدمه ولا يتوقف عن الأنين والتأوه. لقّم أحد الشباب سلاحه وتوجه نحو عامل الإشارة. كان الشاب العراقي يكرّر: «الأمان، الأمان». صرخ إبراهيم فجأة: «ماذا تريد أن تفعل؟». أريد أن أريحه. يا صديقي، حين كان يطلق النار علينا كان عدونا، لكنه الآن أسيرنا. ثم اقترب إبراهيم من الأسير العراقي، رفعه عن الأرض ثم حمله على ظهره وانطلق. نظر الجميع بتعجب إليه. قال أحدنا: «يا إبراهيم، هل أنت مدركٍ لما تفعله؟! تفصلنا ثلاثة عشر كيلومترًا عن مواقعنا. هل ستحمله كل هذه المسافة؟». التفت إبراهيم إليه وأجابه: «لقد وهبني الله هذا الجسم القوي، لمثل هذه الأيام!». ثم توجّه نحو الجبل. فجمعنا أجهزة اللاسلكي والأسلحة الموجودة داخل الجيب وأسرعنا خلف إبراهيم. استرحنا قليلًا على سفح الجبل حيث ضمّدنا قدم الأسير العراقي المجروحة. ثم أكملنا مسيرنا. بعد سبع ساعات من المسير على الجبل وصلنا إلى خطوطنا الأمامية. في الطريق، كان إبراهيم يتكلم دائمًا مع الأسير العراقي، الذي كان بدوره لا يتوقف عن شكره. عند أذان الصبح، صلينا جماعة في أحد الأماكن. صلّى الأسير العراقي معنا جماعة. عندها عرفنا أنه شيعيّ. بعد الصلاة، تناولنا بعض الطعام. قسّمنا كل ما نحمله من طعام بيننا بالتساوي وحصل الأسير العراقي على حصة مماثلة لحصصنا. عرّفنا الأسير العراقي - الذي كان متفاجئًا من تصرفنا- إلى نفسه. فقال: «أنا أبو جعفر، أسكن في كربلاء. لم أكن أتوقّع أن تكونوا هكذا و...». باختصار، تحدّث كثيرًا لكننا لم نفهم من كلامه إلّا بعض العبارات... قبل طلوع الفجر، ذهبنا إلى محلّ قرب غار «بان سيران» فاسترحنا فيه. ذهب «رضا كوديني» إلى مواقعنا كي يحضر لنا بعض الحاجيات. بعد ساعة، عاد مع عدد من الشباب للمساعدة، فإذا به ينادينا. سألته: «ما الخبر؟». أجاب: «حين كنت عائدًا. صُدِمت مما رأيت! كان أحدهم يقف أمام الغار وبيده سلاح. اعتقدت أنه أحد منكم، لكن حين اقتربت رأيت أبا جعفر يحرس باب الغار. حين رأيته انخطف لون وجهي، لكنّه سلّم عليّ وأعطاني سلاحه. وقال لي إنّكم نيام وإنّه رأى دورية عراقية تمر من هناك فوقف ليحرس. وإذا اقتربوا يرميهم بالنار!». ذهبنا مع الشباب إلى المقر حيث بقي أبو جعفر معنا أيّامًا. بينما دخل إبراهيم المستشفى، بسبب الضغط الكبير الذي تحمله خلال ذلك المسير. لكنه عاد بعد أيام قليلة. فرح جميع الشباب لرؤيته. ناديت إبراهيم وقلت له: «لقد جاء شباب «جيلان غرب» لتقديم الشكر لك». ولماذا؟! ما الذي حصل؟! تعال وسترى. ذهبت مع إبراهيم إلى مقر الحرس، وبدأ المسؤول هناك بالكلام: «إن أبا جعفر الذي أحضرتموه معكم هو عامل اللاسلكي والاتصالات في مقر الفرقة الرابعة في الجيش العراقي. لقد أعطانا معلومات مهمة وقيّمة حول توزيع القوات وانتشارها، مقر الفيالق، القادة، طرق التسلل و... لم يتوقف هذا الأسير عن الكلام منذ ثلاثة أيام. وكل معلوماته صحيحة، وقد كان موجودًا في المنطقة منذ الأيام الأولى للحرب. كما أطلعنا على الطرق التي يسلكها العراقيون وعلى شيفرة اللاسلكي[3] لديهم. لذلك جئنا إلى هنا لنشكركم على العمل المهم الذي قمتم به». ابتسم إبراهيم وقال: «وما الذي فعلناه؟ إنه عمل الله». في اليوم التالي، أُرسِل أبو جعفر إلى معسكر الأسرى. سعى إبراهيم كثيرًا لإبقاء أبي جعفر الذي قال إنّه يريد محاربة العراقيين، لكن لم يوافَق على هذا الأمر.بعد فترة، جاءت مجموعة من العراقيين إلى الجبهة، أطلقت على نفسها اسم «التوابين». كانوا يقاتلون إلى جانب «فيلق بدر». كان الوقت عصرًا حين جاء أحد شباب المجموعة القدامى لرؤيتي. قال لي والفرح بادٍ على وجهه: «لدي خبر جميل لك. إنّ أبا جعفر، ذلك الأسير العراقي، يعمل الآن في «فيلق بدر»!». بعد انتهاء العمليات، توجهنا مع بعض الشباب إلى مقر «فيلق بدر». كنّا نريد أن نجد أبا جعفر ونضمّه إلى مجموعتنا، لكن عند وصولنا إلى مدخل المبنى، تفاجأنا بمشهد يصعب تصديقه. كانوا يرفعون صور شهداء «فيلق بدر» على الحائط عند مدخل المقر، وكانت صورة أبي جعفر بين الشهداء. لقد استشهد في العملية الأخيرة لـ«فيلق بدر». شعرت برأسي يغلي من الصدمة[4]. كانت حالتي عجيبة ووقفت مدهوشًا أنظر إلى صورته. لم ندخل بعدها المقر. مرت الذكريات سريعة أمامي؛ ملحمة تلك الليلة، تضحيات إبراهيم، عامل اللاسلكي العراقي، مخيم الأسرى، «فيلق بدر»، الشهادة. هنيئًا له.
[1]- من مؤسسي الحرس في «كرمانشاه». كان من المقاتلين الأكراد المحليين. مضافًا إلى شهادته الجامعية كان مميزًا في معرفته بالقرآن ونهج البلاغة. يعتبر كثير من الشباب أن سبب عدم سقوط «كرمانشاه» في أحداث «كردستان» يرجع إلى إدارة وشجاعة «وهاب». نال «وهاب» أجر عمله وأتعابه عندما التحق برفاقه الشهداء.
[2]- عامل الاتصالات اللاسلكيّة.
[3]- بطاقات تحتوي على جداول معلومات مرمّزة لحماية الاتصالات بين الوحدات والمقرّات.
[4]- مثل يدل على عدم استيعاب الموضوع.