معجزة الأذان
كنّا في مرتفعات «أنار». طلع الصباح. ضمّد المسعف جرح رقبة إبراهيم، فيما كنت منشغلًا بتوزيع الشباب والرّد على اللاسلكي. فجأة وصل أحد الشباب وقال لي: «يا حاج، هناك مجموعة من العراقيين، أفرادها قادمون نحونا وهم يرفعون أيديهم مستسلمين»! قلت له بتعجب: «أين هم؟». ذهبنا معًا إلى إحدى الدشم المطلّة على التلة. ما يقارب عشرين عسكريًا، يتقدمون نحونا وهم يحملون علمًا أبيض. قلت للشباب: «جهّزوا أسلحتكم، قد يكون فخًّا». بعد لحظات، سلّم سبعة عشر عراقيًا أنفسهم بينهم قائدهم. فرحت كثيرًا لأنّنا أسرنا عراقيين في هذا المحور. فكرت في نفسي أن قوة الشباب وهجومهم الجيد أدى إلى خوف العراقيين وبالتالي إلى استسلامهم. أحضرت الضابط العراقي إلى داخل الدشمة، وناديت أحد الشباب الذي يعرف اللغة العربية. سألته كما يفعل المحققون: ما اسمك؟ ما هي رتبتك؟ ما هي مسؤوليتك؟ عرّفني إلى نفسه، ثم قال: «أنا عقيد وقائد القوات الموجودة على التلة. أتينا من فرقة الاحتياط في البصرة». - كم تبقّى من القوات الآن على التلة؟ - لا أحد. ردّدت وعيناي شاخصتان من الذهول: ماذا؟ لا أحد؟ - لقد أتينا وسلّمنا أنفسنا. وأرسلت ما تبقى من القوات إلى الخلف. والتلة فارغة الآن. نظرت إليه بتعجب وسألته: لماذا؟ - لأنهم لم يقبلوا بتسليم أنفسهم معنا. تعجبت أكثر: ما معنى هذا؟ لم يجبني الضابط العراقي؛ بل سألني: أين المؤذّن؟ لا تحتاج هذه الجملة إلى الترجمة. قلت له بتعجب: المؤذن؟ اغرورقت عيناه بالدموع، وبدأ يتحدث وصوته يختنق بالعبرة والمترجم ينقل لنا ما يقوله: «لقد قالوا لنا إنّكم مجوس، تعبدون النار. قالوا لنا إنّنا نهجم على إيران في سبيل الإسلام. صدّقوا، إنّنا جميعًا شيعة. عندما رأينا أنّ الضبّاط العراقيّين يشربون الخمر ولا يصلّون، تردّدنا كثيرًا في مساعدتهم في هذه الحرب. هذا الصباح، عندما سمعنا صوت الأذان الذي يرفعه أحد مقاتليكم بصوته الجميل والمؤثر، ارتجف بدني. حين ذكر اسم أمير المؤمنين قلت في نفسي: «أنت تقاتل إخوتك. ماذا لو كانت هذه الحرب مثل كربلاء؟!». لم يستطع متابعة كلامه لشدة البكاء، ثم أكمل بعد دقائق: «لذلك قرّرنا أن نسلّم أنفسنا. حين طلع الصباح، جمعت قواتي وقلت لهم: «أريد أن أسلّم نفسي للإيرانيين. كل من يريد مرافقتي، فليأتِ. إن هؤلاء الذين جاؤوا معي هم من أتباع عقيدتي، وتراجع البقية إلى الخلف. كما إنني أحضرت معي المقاتل الذي أطلق النار على المؤذن، إذا أصدرتم الأمر أقتله. الآن، أرجوك قل لي هل المؤذن ما زال حيًّا؟». كنت كالضائع، وسيطر عليّ الذهول وأنا أستمع لكلام الضابط العراقي. لم أستطع أن أنطق بكلمة، لكنّني قلت له بعد أن خرجت عن صمتي: «نعم إنه حيّ». خرجنا معًا من الدشمة، ذهبنا إلى إبراهيم حيث كان ممدّدًا في إحدى الدشم. اقترب العراقيّون السبعة عشر جميعًا وقبّلوا يد إبراهيم. ارتمى الجندي الأخير على قدم إبراهيم، يبكي ويقول: «سامحني، أنا أطلقت النار عليك». اختنقت أنا أيضًا بعبرتي. كانت حالتي عجيبة. نسيت عندها الشباب والعمليات. أردت أن أرسل العراقيين إلى الخطوط الخلفية. ناداني الضابط العراقي وقال: «انظر، هناك كتيبة كوماندوس وعدد من الدبابات التي تريد التقدم، ثم أكمل قائلًا: «أسرعوا وسيطروا على التلة». فأسرعت بإرسال مجموعة من شباب مجموعة «أندرزكو» إلى التلة. بتحرير تلك التلة، تمّ تطهير منطقة «أنار» بالكامل. هجمت كتيبة الكوماندوس علينا، لكنّنا كنّا مستعدين؛ لذلك قتل معظمهم وبالتالي لم تنجح هذه الهجمة. في الأيام اللاحقة وبسبب انطلاق عمليات محمد رسول الله في «مريوان»، خفّ الضغط العراقي على «جيلان غرب». على كل حال، حققت عمليات «مطلع الفجر» كثيرًا من أهدافها. حُررت كثير من مناطق بلدنا العزيز. مع أنه خلال هذه العمليات رحل عدد من القادة كـ«غلام علي بيجك»، «جمال تاجيك» و«حسن بالاش» وأسرعوا للقاء الله. بعد أيام وبعد تماثله للشفاء، عاد إبراهيم إلى المجموعة. في ذلك اليوم، أُعلن عن انتهاء عمليات «مطلع الفجر» التي انطلقت تحت الشعار المقدس «يا مهدي». تم القضاء على أكثر من أربع عشرة كتيبة من القوات الخاصة في الجيش العراقي. كما تكبّد النظام البعثي خسائر تزيد عن ألفي قتيل وجريح ومئتي أسير. وقد أُسقطت طائرتان عراقيتان بعد أن صوّب شبابنا عليهما بدقة. مضت خمس سنوات على عمليات «مطلع الفجر». خلال شتاء العام 1987م، كنّا منشغلين بعمليات «كربلاء 5» في «شلمجة». كان جزء من التنسيق بين الفرق واستطلاع العمليات في عهدتي. توجهت إلى مقر «فيلق بدر»، للتنسيق وإرشاد الشباب. كان من المفترض أن يرسل شباب هذا الفيلق، الذين هم من الشباب العرب والعراقيين المعارضين لصدام، إلى الجبهة للمشاركة في المرحلة الثانية من هذه العمليات. بعد أن تواصلت مع قادة الفيلق وقادة الكتائب، وأنهيت عملي هناك، استعددت للحركة. رأيت من بعيد أحد شباب «فيلق بدر»، ينظر إليّ ويقترب مني. كنت أوشك على الانطلاق عندما وصل هذا التعبوي إليّ وسلّم عليّ. رددت سلامه وقال لي من دون أي مقدمة وبلهجته العربية: «هل كنت في «جيلان غرب»؟». أجبته بتعجب: «نعم». ظننت أنه من شباب تلك المنطقة. ثم قال: «هل تذكر عمليات «مطلع الفجر»، مرتفعات «أنار»، التلة الأخيرة!». فكرت قليلًا، ثم قلت: «حسنًا؟ ماذا هناك؟». قال: «هل تذكر العراقيين الثمانية عشر الذين أُسروا؟! أجبته بتعجب: «نعم! حضرتك؟»، فأجابني بسعادة: «أنا واحد منهم!!». ازدادت دهشتي، وسألته: «ماذا تفعل هنا؟». قال: «نحن الثمانية عشر كلنا في هذه الكتيبة. لقد تم الإفراج عنّا بضمانة السيد الحكيم؛ لأنه كان يعرفنا جيدًا. ثم قررنا الالتحاق بالجبهة لنحارب البعثيين! كان الأمر عجيبًا بالنسبة إلي. قلت له: «بارك الله فيكم، أين قائدكم؟». قال: «إنه مسؤول في هذه الكتيبة. ونحن الآن نستعد للذهاب إلى الخطوط الأمامية». قلت له: «اكتب اسم كتيبتكم واسمك على هذه الورقة. أنا مستعجل الآن، سأعود بعد العمليات لأزوركم وأتحدث معكم بهدوء». كان يكتب أسماء رفاقه حين سألني: «ما كان اسم ذلك المؤذّن؟». أجبته: «إبراهيم، إبراهيم هادي». قال: «كنا نبحث عنه خلال هذه المدة. طلبنا من قادتنا أن يجدوه. نودّ كثيرًا رؤيته مرة ثانية». سكتّ قليلًا. اختنقت بدمعتي. رفع رأسه ونظر إليّ. قلت له: «تلتقون به في الجنة إن شاء الله». انقبض قلبه حزنًا. كتب الأسماء واسم الكتيبة وأعطاني إياها. ودعته بسرعة وانطلقت. لم أكن أتوقع هذا التصرف العجيب. ها قد انتهت العمليات في شهر آذار. أخذ العديد من الشباب مأذونية. في أحد الأيام، وجدت بين أغراضي الورقة التي أعطاني إياها ذلك التعبوي العراقي. ذهبت لرؤية شباب بدر. سألت أحد قادة الفيلق عن الكتيبة التي كتب اسمها على الورقة. أجابني ذلك المسؤول: «لقد انحلت تلك الكتيبة». قلت: «أريد أن ألتقي بشبابها». أكمل القائد كلامه قائلًا: «إن الكتيبة التي تتحدث عنها، وقفت مع قائدها أمام هجوم مضاد واسع جدًّا للعراقيين في «شلمجة». استشهد كثيرٌ منهم لكنهم لم يتراجعوا. سكت قليلًا ثم أكمل: «لم يبقَ أحد من تلك الكتيبة على قيد الحياة؟»، قلت له: «إن هؤلاء الثمانية عشر كانوا من الأسرى العراقيين. أسماؤهم هنا. أتيت لرؤيتهم». تقدم قليلًا. أخذ الورقة من يدي، وأعطاها لشخص آخر. عاد ذلك الشخص بعد دقائق وقال لي: «استشهدوا جميعًا». لم يعد لديّ ما أقوله. جلست وبدأت بالتفكير. قلت في نفسي: ماذا فعل إبراهيم بأذان واحد؟ حُرّرت تلّة، نجحت العملية، انتقل ثمانية عشر فردًا كـ«الحُرّ» من قعر جهنم إلى الجنة. ثم تذكرت ما قلته لذلك العراقي : «تلتقون به في الجنة إن شاء الله». رغمًا عني، سالت دموعي، ثم ودعته وخرجت من هناك. لا شك في أن إبراهيم كان يعرف أين عليه رفع الأذان، ليجعل قلب العدو يرتجف، وليهدي أولئك الذين بقي في قلوبهم مكان للإيمان».